في لحظة فارقة من تاريخ العرب الحديث، لم تعبر مصر قناة السويس فحسب، بل اجتازت زمن الهزيمة إلى زمن الإرادة. السادس من أكتوبر 1973 لم يكن يومًا عسكريًا معزولًا، بل تتويجًا لمسار جماعي طويل، شاركت فيه الأمة بكل طبقاتها، من الخنادق إلى المصانع، ومن القرار السياسي إلى نبض الشارع.
بعد نكسة يونيو 1967، لم تدخل مصر في سبات سياسي، بل في حالة تعبئة وطنية شاملة، أعادت فيها بناء ذاتها لا على مستوى الجيش فقط، بل على مستوى الوجدان الشعبي. وقد أدرك المصريون أن الهزيمة ليست قدرًا، بل لحظة قابلة للتجاوز حين تتشكل إرادة جماعية واعية.
في سرديات النصر الرسمية، غالبًا ما يُختزل المجد في قرار القيادة أو ضربة جوية، لكن الحقيقة أن الشعب المصري كان هو البطل الأول المنسي. تهجيره من مدن القناة، تحمله لاقتصاد الحرب، خروجه في مظاهرات تطالب بالقتال، كل ذلك يكشف عن وعي جمعي رفض الاستسلام، وقرر أن يدفع قيادته نحو المواجهة.
لم يكن الشعب مجرد متفرج، بل كان يقتحم التاريخ حين شعر أن وجوده مهدد، وأن مستقبله معلق على خوض معركة استرداد الكرامة قبل استرداد الأرض.
في قلب هذه الملحمة، يبرز القطاع العام كبطل منسي. ذلك الكيان الذي وُلد من رحم خطط التنمية الستينية، وجد نفسه فجأة على خط النار، يعمل بلا توقف، يمدّ الجيش بما يحتاج، ويؤمّن ضروريات الشعب، ويُصدّر لتوفير العملة الصعبة.
لم تكن "ايديال وغزل المحلة، والمصانع الحربية وقها وغيرها الكثير من المنتجات المصرية مجرد علامات تجارية، بل كانت رموزًا لقدرة مصر على أن تقاتل بإنتاجها لا باستيرادها.
الاقتصاد المصري تحمّل كلفة مزدوجة: إعادة بناء الجيش وتأهيله للقتال، وفي نفس الوقت استكمال مشروعات عملاقة مثل السد العالي ومجمع الألومنيوم في نجع حمادي. ولولا القاعدة الصلبة التي أقامتها خطط التنمية قبل الهزيمة، لما استطاعت مصر أن تصمد ست سنوات تحت ضغط الحرب وكلفتها.
على الجبهة، كان هناك جيش آخر يتشكل بالصبر والتعبئة والتدريب. منذ أول شهر بعد الهزيمة بدأت حرب استنزاف طويلة، خاضها جنود وضباط من مختلف الطبقات، وظل بعضهم ست سنوات كاملة في الخنادق، ينتظر لحظة العبور. هؤلاء الشباب، الذين لم يعودوا إلى بيوتهم إلا بعد أن عبروا إلى الضفة الشرقية، هم الحراس الصامتون لذاكرة النصر.
لا يظهرون في الصور الرسمية، لكنهم كتبوا بدمائهم سطرًا جديدًا في تاريخ الأمة.
وحين نراجع مشهد أكتوبر، نجد أن النصر لم يكن نتيجة قرار واحد، بل حصيلة معادلة متكاملة: شعب صابر، اقتصاد صامد، جيش مقاتل، وقيادة سياسية اتخذت القرار في لحظة مناسبة.
هذا التوازن وهذا الاصطفاف الوطني الحقيقي هو ما جعل النصر ممكنًا، فالقرار السياسي لا يصنع النصر وحده، بل يكتمل حين يلتقي مع استعداد الأمة، واصرارها على أن تفرض لنفسها مكانًا يليق بها تحت الشمس.
الدرس الأكبر من أكتوبر هو أن الهزيمة ليست نهاية، بل بداية لمسار جديد حين تتشكل إرادة جماعية.
في زمن عربي يواجه تحديات وجودية، من التفكك إلى التبعية، يعيدنا أكتوبر إلى ثلاثية الخلاص: امتلاك إرادة القتال، استقلال القرار الوطني، والاعتماد على النفس، وبناء القوى الذاتية، ليست هذه شعارات تُرفع، بل شروط وجود لمن أراد أن يخطّ بصدق فصلًا جديدًا في تاريخ الأمة.
-----------------------
بقلم: محمد حماد